×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

شكوك حول تمويل حملة ساركوزي من الخارج

 في الأيّام الأخيرة من الحملة الانتخابيّة للرئاسة الفرنسيّة خرج العميد البشير الصيد أحد أبرز محاميّي الوزير الأول الليبيّ السابق ليعقد ندوة صحفية يوم 3 ماي 2012 يقول فيها أنّ منوّبه يؤكّد أنّ نظام القذّافي في ليبيا موّل الحملة الانتخابيّة للرئيس الفرنسي المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي.

وبحسب صحيفة "عين" التونسية فإن ذلك أثار ذلك ضجّة في حينها، خاصّة وأنّه أكّد أخبارا تناقلها كبار المسؤولون الليبيّون قبل سقوط القذّافي وكذّبها ساركوزي في حينه.

"ميديا بارت" الموقع الإخباري الفرنسيّ المعروف بدقّة أخباره أخذ الخبر أيضا وكان نشر وثيقة تفيد حصول التمويل، كذّبها ساركوزي أيضا معلنا أنّه سيرفع قضيّة ضدّ الموقع.

وفي حديث تلفزيوني في نفس الليلة على قناة فرنسيّة صرّح نيكولا ساركوزي دون تردّد بأنّ تصريحات البغدادي المحمودي في الخصوص معيبة وأنّه قام بتسهيل خروجه من ليبيا بعد سقوط طرابلس وكأنّه يستنكر إساءته له بقوله مقابل مساعدته له.
المحامي الفرنسي سيكالدي

من الغد خرج المحامي الفرنسي سيكالدي وعقد ندوة صحفية مستعجلة يوم الجمعة 4 ماي (قبل يومين من التصويت في الدور الثاني) ليعلن في باريس أنّه أصبح المحامي الوحيد للبغدادي المحمودي، مقدّما وثيقة موقعة من قبل رئيس الوزراء السّابق قال أنّه توكيل قانونيّ له في الغرض وأنّه يصرّح بصفته محامي البغدادي بأنّه لا صحّة بتاتا لما نسب لموكّله من كونه أكّد تمويل ليبيا لحملة ساركوزي.

الملاحظ أنّ المحامي الفرنسي لم يهتمّ بالتعليق على كلّ التصريحات الأخرى التي قالها العميد البشير الصّيد في ندوته الصحفيّة، وكأنّ كلّ مهمّته تنحصر فقط في رفع "التهمة" عن ساركوزي وتبرئة ساحته في أيّام الانتخابات العصيبة، فهو لم ينف مثلا ما قاله المحامي التونسي البشير الصيد حول وقوع البغدادي تحت ضغط إدارة السجون التونسيّة،
وهو ما نفاه تماما بقيّة المحامين ممثّلين في لجنة الدفاع التي يرأسها الأستاذ عزّ الدّين العرفاوي وبعضويّة الأستاذين المبروك كرشيد ومهدي بوعوّاجة.

اعتراف قضائي للبغدادي بتمويل ساركوزي

تصريحات البغدادي المحمودي في خصوص تمويل الحملة الانتخابيّة لم تكن جديدة، فقد أقرّها صراحة وبوضوح في جلسة قضائيّة رسميّة انعقدت يوم 25 أكتوبر 2011 أمام دائرة الاتّهام العاشرة بمحكمة الاستئناف بتونس برئاسة القاضي عزّ الدين بوزرارة، أثناء النّظر في المطلب الأوّل لتسليمه إلى ليبيا بطلب منها.

إذ توجّه له أحد محاميّيه وهو الأستاذ سليم بن عثمان بالسؤال حول تمويل ليبيا لسياسيّين أجانب و للحملة الانتخابيّة لساركوزي سنة 2007 خصوصا، فأجاب الوزير الأوّل الليبيّ السابق فورا وبدون تردّد وهو يبتسم بتأكيد ذلك ذاكرا أنّه أشرف شخصيّا على تمويل حملة المرشّح في الرئاسة في تاريخه نيكولا ساركوزي وذلك عبر وسطاء في سويسرا بأموال سائلة نقدا، وأنّ ساركوزي وجّه لهم الشكر مرارا عبر عدّة وسطاء.

لفهم أفضل للموضوع يجب أن تعرف أنّ الأستاذ سيكالدي هو في نفس الوقت أيضا محامي البشير صالح بشير، وهو اسم قد لا يكون مشهورا جدّا للعامّة ولكنّه معروف في ليبيا وأوربّا وإفريقيا وفي تونس أيضا لدى النخبة وخاصّة في مجال المال والأعمال.

وسبب شهرته أنه كان مدير ديوان مكتب القذّافي، وهو أيضا رئيس صندوق الاستثمارات السياديّة الليبيّة الذي يدير أموال استثمارات الحكومة ويتحكّم في ميزانيّة تفوق 7 مليارات دولار (أكثر من 10 آلاف مليون دينار تونسي).

ومن بين استثمارات الصندوق شركة "لايكو" السياحيّة التي أبرمت عدّة صفاقات مشبوهة مع بلحسن الطرابلسي سابقا في تونس وقد تكون لها علاقات ماليّة مع بن عليّ نفسه كما يبدو، منها قضيّة لها امتدادات بسويسرا.

لغز البشير صالح بشير

البشير صالح يعدّ مخزنا للأسرار الماليّة وربّما السياسيّة بليبيا، وربّما لا يزال يمتلك مفاتيح عديد الحسابات والأموال والاستثمارات الليبيّة في الخارج، وهو لذلك مطلوب من السلطات الليبيّة الجديدة، بل مطلوب فورا للشرطة الدولية "الانتربول" لإلقاء القبض عليه وتقديمه للدولة التي تطلبه فورا.

وكان البشير صالح قد هرب أيضا من ليبيا في الوقت الأخير، وهناك شكوك في كونه حصل على دعم ثوّار الزنتان ليتمكّن من الفرار، ومعروف أنّ ثوّار الزنتان هم من قبض على سيف الإسلام القذّافي وأبقوه معتقلا لديهم، وكان سيف أوّل من فجّر قنبلة التمويل الليبيّ لحملة ساركوزي الانتخابيّة أمام شاشات التلفزات العالميّة.

وقد دخل البشير تونس عبر الحدود الليبيّة البريّة، وقابل في حينه بحسب ما توفّر لدينا من معلومات السياسي الفرنسي دومينيك دوفيلبان الوزير الأوّل الفرنسيّ السابق، والذي أوشك على الترشّح للانتخابات الرئاسيّة هذه السنة، وعاد لامتهان المحاماة لاحقا، ويرتبط بعلاقات جيّدة حاليا مع قطر وقد يكون يقدّم لها الاستشارات القانونيّة في ما يخصّ استثماراتها في فرنسا.

وقد قدم دوفيلبان ومن معه إلى جزيرة جربة في زيارة خاطفة بطائرة خاصّة مسجّلة باللّيكسمبورغ قد تكون على ملك مصمّم أزياء معروف وثريّ. ولا يعرف موضوع ولا تفاصيل اللّقاء وأسبابه.

زطوال إقامته بتونس لم يلقى البشير صالح أيّ مضايقة لا قضائيّة ولا أمنيّة ولا سياسيّة من حكومة الباجي قايد السّبسي. وقد توجّه إلى العاصمة لاحقا وسافر عبر مطار تونس قرطاج إلى فرنسا.

ودخل صالح فرنسا برغم كونه موضوع تفتيش دوليّا، وأقام بدون ايّ إزعاج من السلطات الفرنسيّة بفيلا أو بالأحرى قصر فخم على الحدود الفرنسيّة السويسريّة.

علما وأنّه سبق له أن حصل على بطاقة إقامة بفرنسا لمدّة عشر سنوات أيّام كانت ليبيا في عصر علاقتها الذهبيّ مع فرنسا ساركوزي، وكان من منحه الإقامة وزير الداخليّة كلود غايان سنة 2008 والذي يرتبط معه بعلاقة صداقة على ما يبدو.

كلود غايان وزير داخليّة ساركوزي

كلود غايان هذا وفي ندوة صحفيّة بفرنسا سأله أحد الصحفيّين عن كيفيّة دخول البشير صالح إلى فرنسا وبقائه فيها برغم كونه مطلوب القبض عليه من البوليس الدولي. فقال بأنّه لم يكن يعرف بالأمر، وأنّه سيقع القبض عليه حالما يتمّ "اكتشافه" طبق الترجمة الحرفيّة لتعبيره باللّغة الفرنسيّة.

صحفي بمجلّة "باري ماتش" الشهيرة عثر فعلا على البشير صالح وهو بصدد تناول العشاء علنا بصفة عاديّة بأحد المطاعم بقلب باريس على مقربة من مقرّ الحزب الاشتراكي، فقام بتصويره وأجاب البشير على أسئلته بالقول بلهجة ساخرة وبالفرنسيّة التي يتكلّمها: "هل رأيت؟ لست مفتّشا عنه".

الصحفي قام طبعا بنشر الصورة والخبر، وعرضها أيضا على نفس وزير الداخلية بندوة صحفيّة لاحقة فصرّح مرّة أخرى أنّه ليس على علم بالموضوع.

من يومها اختفى البشير صالح تماما ولم يظهر لاحقا بفرنسا، علما وأنّ مجلّة "جون أفريك" كانت أعلنت في وقت سابق أنّه حصل على جواز سفر ديبلوماسي من النيجر وعرضت نسخة منه, وقد يكون ذلك تمّ بحسب ما توفّر لدينا من معلومات بتدخّل من الأجهزة الفرنسيّة المرتبطة بساركوزي نفسه.

وقد صرّحت دولة النيجر إثر ما وقع كشفه أنّها ألغت مفعول جواز السفر. ويرجّح اليوم أن يكون البشير غادر فرنسا تحت ضغط الإعلام إلى وجهة مجهولة خاصّة وأنّ زوجته "كافا كاشوري" حكم عليها بالسجن لسنتين وغرامة بمبلغ 70 الف أورو من أجل استعباد عملة تنزانيّين.

ساركوزي يلمّح لتهريب البغدادي

ساركوزي من جهته صرّح ردّا على تواجد البشير صالح المطلوب دوليّا بفرنسا أنّ هذا الأخير جاء عبر تونس وبالتشاور والتنسيق مع رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل.

عبد الجليل وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه إزاء تصاعد الاحتجاجات ضدّه داخل ليبيا باعتبار أنّ صالح تتعلّق به تهم بالفساد في بلده، وهو يعدّ أحد خزنة الأسرار الماليّة الليبيّة.

وقد اضطرّ عبد الجليل لتكذيب تصريحات ساركوزي برغم أنّه حاول جاهدا أيضا مدّ طوق النجاة لساركوزي في الأيّام الأخيرة بمبادرته بتكذيب تمويل ليبيا لحملته سابقا.

توكيل البغدادي لسيكالدي

تم توكيل المحامي سيكالدي على ما يبدو من طرف البشير صالح نفسه ليؤدّي خدمة واحدة هي محاولة نفي التهمة عن ساركوزي.

وقد صرّح سيكالدي في ندوته الصحفيّة يوم 4 ماي بأنّه أضحى المحامي الوحيد للبغدادي المحمودي واستظهر بوثيقة بها إمضاء مختصر للبغدادي في الغرض. هذه الوثيقة تشوبها شكوك قويّة باعتبار أنّ موكلّه المزعوم مسجون بتونس، وهو لم يقابله شخصيّا البتّة.

وتقتضي قواعد السجن بتونس أن لا يقوم السجين بإمضاء أيّ وثيقة بصفة مباشرة، وإنّما يجب عليه الحصول على إذن من إدارة السجون بتكليف عدلي إشهاد يحضران إلى السجن لمقابلته بصفة شخصيّة وتحرير حجّة عادلة في الغرض تبيّن رضائه الكامل، وفي ذلك منع للتلاعب والتجاوزات وحماية للسّجناء من أيّ ابتزاز أو تحيّل.

وفي ما توفّر لدينا من معلومات حتّى الآن فإنّ هذه الإجراءات قد لا يكون وقع اتّباعها في ما يخصّ وثيقة سيكالدي بما يجعل توكيله عن البغدادي باطلا وغير قانوني.

شاهد لم ير شيئا

الأستاذ سيكالدي صرّح بأنّه يتعاون مع المحامي التونسي الأستاذ محمد صالح حسن ومرّر مكاملة هاتفيّة معه عبر الهاتف نفى فيها المحامي التونسي المذكور تصريحات العميد البشير الصّيد بخصوص تمويل حملة ساركوزي ذاكرا أنّ البغدادي لم يدلي بمثل تلك التصريحات بتاتا.

الحقيقة أنّ الأستاذ محمد صالح حسن لم يكن حاضرا بجلسة يوم 25 أكتوبر 2011 التي أدلى فيها المحمودي بتلك التصريحات أمام دائرة الاتّهام العاشرة بمحكمة الاستئناف بتونس، وأنّ تلك التصريحات حسب ما بلغنا من مصادر حقوقيّة موثّقة فعلا بالمحضر الرسميّ لتلك الجلسة، ومن سخرية القدر أنّ من طرح السؤال الذي استوجب الجواب الإقراري للبغدادي هو الأستاذ سليم بن عثمان الذي صرّح أنّه يحضر الجلسة نيابة عن الأستاذ محمد صالح حسن نفسه.

بقي أن نشير إلى أنّ الأستاذ صالح حسن سبق له حضور عدّة ندوات صحفيّة للعميد البشير الصيد ولم يعترض سابقا على مضمون أيّ منها.

تراجع البغدادي عن توريط ساركوزي

بعد يومين من تصريح العميد الصيد توصّل البغدادي فيما يبدو بردّ ساركوزي عبر قنوات معيّنة، وخرج صهره المدعو محمود أبو شعّالة عبر وكالة الأنباء الفرنسيّة ليصرّح يوم 5 ماي من فندق "الكونكورد" بضفاف البحيرة بالعاصمة تونس ليكذّب رواية العميد البشير الصيد، وليعبّر عن استياء البغدادي المحمودي من سجنه من تصريحات ساركوزي الذي عبّر عنه بلقب "فخامة الرئيس"، لائما إيّاه في ما يبدو على عدم التثبّت من صحّة التصريحات التي اعتبرها منسوبة إلى البغدادي دون التثبّت من قوله لها حقيقة، مفيدا بذلك أنّها كاذبة ولم تصدر عنه.

ويرى ملاحظون مطّلعون على الملفّ عن قرب أنّ خيبة الأمل التي عبّر عنها أبو شعّالة صهر البغدادي لم يكن مردّها تصريحات البشير الصيد، وإنّما لا مبالاة "فخامة الرئيس ساركوزي" بالمجهودات العاجلة للبشير صالح ومحاميه وصهر البغدادي والبغدادي نفسه لتكذيب ما قاله الصيد وما اعتبروه جميعا مدّ يد المساعدة له في حملته الانتخابيّة مقابل ردّ ساركوزي الهجوم على البغدادي.

كل هذا حدث بالرغم من أنّ محاولة الإنقاذ تلك كانت في الحقيقة غير مجدية تماما بحسب استطلاعات الرأي التي كانت تؤكّد على الدوام فوز هولاند في الدورة الثانية.

فهل تلقّى البغدادي المحمودي تطمينات أو وعودا من أطرافا مرتبطة بساركوزي بمساعدته عند إعادة انتخاب ساركوزي لدى السلط التونسيّة في ملفّ سجنه وتسليمه إلى ليبيا مقابل تراجعه عن أقواله ؟ لا أحد يعرف ذلك، لكنّ تراجع البغدادي قد لا تكون فيه مصلحة سوى ذلك الأمل.

مراهنة البغدادي على الحصان الخاسر

فور صدور النتيجة النهائيّة للانتخابات الفرنسيّة بهزيمة ساركوزي أدرك البغدادي ومن معه أنّه راهن ـ وعبر تراجعه في آخر لحظة عن تصريحات محاميه الصادقة ـ على الحصان الخاسر الذي هو ساركوزي، فخسر من الجهتين.

وخسر البغدادي أيضا فريق دفاعه في تونس الذي استبسل طوال أشهر طويلة في الدفاع عنه ومنع فعليّا تسليمه إلى ليبيا برغم الضغوط الليبيّة وحتّى الفرنسيّة على ما يبدو التي وجدت في المصير المحتوم المقدّر للبغدادي لو سلّم إلى ليبيا طريقة مثاليّة لضمان إسكاته إلى الأبد.

ولم يجد البغدادي أحدا يقف معه غيرهم في غياهب سجنه عندما زالت عنه السلطة وتخلّى عنه كلّ العالم. وهو ما علّق عليه البعض بالقول: "على نفسها جنت براقش".
ووفق بعض المصادر المطلّعة وطبق بعض المعلومات السريّة وبتحليل الأحداث والتصريحات الأخيرة وخصوصا ما ألمح إليه ساركوزي نفسه في تصريحه التلفزي المذكور من كونه سهّل خروج البغدادي من ليبيا، فإنّه يمكن الاستنتاج أنّ البغدادي المحمودي قد يكون تمكّن من الفرار من ليبيا بعد سقوط طرابلس وهروب القذّافي منها، بتسهيلات من أجهزة مخابرات أجنبيّة قد يكون من بينها أساسا المخابرات الفرنسيّة نفسها.

غير أنّ مراقبي البغدادي قد يكونون فقدوا أثره على الحدود التونسيّة الليبيّة عندما وصل إلى أرض قبيلته "النوايل" التي تعيش بالمنطقة بين البلدين. بل أنّ منزله الشخصي بمنطقة قبيلته يقع على الحدود التونسيّة الليبيّة بجهة تسمّى "العسّة".

يتلاقى ذلك مع ماهو منطقيّ من أنّ قطع البغدادي المحمودي عشرات الكيلومترات غربا من طرابلس في اتّجاه الحدود مع ليبيا بعد سقوطها، وبعد بسط الثوّار سيطرتهم على كامل الأراضي الليبيّة وبحثهم المستميت عنه وعن أركان حكم القذّافي يبدو مهمّة مستحيلة لولا بعض المساعدات وغضّ الطرف.

شبهات إلقاء القبض على البغدادي

بعد حوالي الشهر يظهر الدكتور "البغدادي علي أحمد المحمودي" فجأة بنقطة الحدود التونسيّة الجزائريّة بتمغزة من ولاية توزر في سيارة رباعيّة الدفع مع قريبين له، وهناك قدّم جواز سفره العادي (غير الديبلوماسي) والذي دوّنت فيه مهنته الأصليّة كطبيب، مبديا رغبته في اجتياز الحدود إلى الجزائر.

موظف شرطة الحدود ومثلما تقتضيه التعليمات المطبقّة حينها بصرامة في خصوص الليبيّين، بالنّظر إلى الحالة الأمنيّة العامّة وأحداث الثورة الليبيّة، أخبره بضرورة التثبّت في جواز سفره وهويّته، وهو ما أثار عصبيّة البغدادي وجعله يردّ عليه بحدّة، بعدها تلقّى الموظف على ما يبدو تعليمات بمنعه من اجتياز الحدود، وتمّ إيقاف المحمودي ومن معه فورا وإحالتهم جميعا توّا على قاضي ناحية توزر من أجل تهمة اجتياز الحدود التونسيّة الليبيّة خلسة، بزعم أنّ دخوله التراب التونسي لم يكن قانونيّا.

وقد حكم القاضي بمجرّد عرض المتّهمين عليه، وبدون حضور محامي بسجنه لمدّة 6 أشهر نافذة، وتمّ إيداعه فورا السجن المدني بقفصة.

البغدادي لم يطلب إنابة محامي لكونه كان يعتقد أنّ قضيّته بسيطة وسهلة ستنتهي بمجرّد إطّلاع القاضي على جواز سفره لكونه متأكّدا تماما أنّه دخل الحدود من بوّابتها وتمّ ختم جوازه طبق القانون.

بعد 6 أيّام نظرت المحكمة الابتدائيّة بتوزر في مطلب استئناف البغدادي للحكم الابتدائي والذي قدّمه محامون من توزر تطوّعا، وقضت المحكمة في نفس الجلسة يوم 27 سبتمبر 2011 بنقض الحكم الابتدائي والقضاء من جديد بعدم سماع الدّعوى وإخلاء السبيل، بعد أن تأكّد للمحكمة أنّ جواز سفره قد وقع ختمه بالمعبر الحدودي برأس الجدير فعلا، وأنّ دخوله للتراب التونسي كان قانونيّا.

وفي الوقت الذي كان يفترض فيه إطلاق سراح البغدادي في نفس اليوم من سجن قفصة بعد حكم البراءة مثلما تقتضيه القوانين والقواعد المعمول بها، تمّت نقلة البغدادي بمفرده إلى السجن المدني بالمرناقيّة بالعاصمة أين تمّ إيداعه دون أيّ صكّ قضائيّ حسب ما صرّح به محاموه، ليرد من الغد مطلب تسليم للبغدادي من المجلس الانتقالي الليبيّ، ويدخل بذلك في سياق قضائيّ جديد حول تسليمه إلى ليبيا.

أسباب منع البغدادي من دخول الجزائر

من خلال ذلك يتّضح أنّه كانت هناك نيّة واضحة لمنع البغدادي من اجتياز الحدود إلى الجزائر. وأنّ هناك أطرافا تونسيّة عملت على تنفيذ ذلك المخطّط مسخّرة الأمن والقضاء لذلك، خاصّة وأنّ منعه من اجتياز الحدود وتوجيه الاتّهام له بالدخول إلى تونس خلسة، هو اتّهام مجانيّ لا صحّة له إطلاقا لكون جواز السفر يحمل ختم الدّخول القانوني مثلما أثبته القضاء من خلال القرار الباتّ الصّادر في الموضوع وفق الحكم الاستئنافي الصّادر بتاريخ 14/02/2012 عن المحكمة الابتدائيّة بتوزر بعد نقض الحكم الأوّل من محكمة التعقيب.

وبالتالي فإنّ كلّ العمليّة كانت مدبّرة لأغراض سياسيّة لا شكّ أن حكومة الباجي قايد السّبسي السابقة كانت متورّطة فيها.

وقد يفهم من ذلك أيضا أنّ البغدادي المحمودي أخطأ الطريق والقرار بتوجّهه للجزائر أين كانت تنتظره بعض الشخصيّات المجهولة على الطرف الآخر من الحدود، ولربّما لو بقي بتونس، أو توجّه بجواز سفره الديبلوماسي إلى أيّ مطار تونسيّ ليسافر إلى فرنسا نفسها للقي الترحيب وتمّ غضّ النّظر عنه كما حدث مع البشير صالح تماما.

بعضّ الأطراف في السلطات التونسيّة الجديدة التي ورثت ملفّ البغدادي عن الوزير الأوّل السابق الباجي قايد السّبسي كغيره من الملفّات الشائكة الاخرى، كانت أكّدت لبعض محاميّي البغدادي المحمودي الذين طالبوا بإبقائه بحالة سراح في انتظار تسليمه إلى ليبيا تطبيقا للقرارات القضائيّة الصادرة بتسليمه، أنّ بقائه في السجن يشكّل في الحقيقة حماية له.

ولربّما يكون هذا صحيحا، بالنّظر إلى النهاية الأليمة للوزير الأوّل ووزير البترول الليبيّ السابق شكري غانم الذي انشقّ عن القذّافي في الأشهر الأخيرة وهرب ليعيش بالنّمسا قبل أن يعثر عليه ميّتا وغارقا بنهر الدانوب الهادئ بالعاصمة فيينا.

وقد اكتفت الشرطة النمساويّة بالتأكيد ومنذ الدقائق الأولى لاكتشاف جثّته بأنّه مات غارقا دون أيّ شبهة جريمة، وهو ما ينفيه أفراد من عائلته ويستغربه بعض الملاحظون. علما وأنّ غانم عالم أيضا بالكثير من الأسرار الماليّة لليبيا ومنها خاصّة أموال النفط الهائلة، وطرق صرفها.

وفاة شكري غانم تزامنت بشكل غريب مع نشر وثيقة بموقع "ميديا بارت" الإخباري الفرنسي بشأن تمويل ليبيا لحملة ساركوزي الانتخابيّة سنة 2007.

مما يطرح تساؤلات بحسب المراقبين عن مصير البغدادي، هل كان سيغرق في نهر "السين" مثلا لو غادر إلى باريس؟
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر